من البديهي بل من الضروري أحياناً تصدير التجارب الثورية الممتزجة بالمعاناة التاريخية للمجتمعات،لكن من المستحبل أن تُنتَج ثورة نقية خالية من كل انتماء أيدلوجي (سياسي أو ديني)،تهدف إلى الحرية الكاملة الملتزمة لصنع حضارة إنسانية مكتملة الملامح والأسس،فالثورات نتاج حراك إجتماعي لكل طبقات المجتمع وطوائفة،ولكن دائماً ما تطل إشكالية التيار الواحد والمستفيد الأوحد من كل مرحلة من مراحل التغيرات الاجتماعية في ظل البناءات الثورية الجديدة،ويتحول التيار من مجرد مشارك مهماً كان دوره إلى الناطق الرسمي بل والمُقيّم للتجربة صاحب الحق الوحيد في التعامل مع كل وجهات النظر المعارضة أو حتى البديلة.
فالعدل والحرية والمساواة في الثورة الفرنسية يمتزجون بدماء النبلاء والمعارضين،والثورة البلشفية تكتسح العالم بمفاهيمها وأعلامها الحمراء والنخبوية وآلة القمع السياسي والعسكري لكل الإتجاهات المعارضة على مدار تاريخها،وصولاً للثورة الكمالية في تركيا التي صدّرت تطبيقها للفكر العالماني ملوحة بشعارات تبدوا بناءة للمجتمع المدني،فتحول المجتمع لفصام كامل من ديني الوجهه لاديني التوجه،حتى الثورة المصرية ونزعتها القومية وتأثيرها على العديد من البلدان العربية وغيرها حتى إيران ذاتها قبل العهد الثوري ومرحلة (مصدق) في إيران وتأميم البترول ثم فشلها،إلا أن الطابع الثوري المصري بكل ما اتسم به من فردية تبدوا كملامح الديكتاتورية،جعلت المد الثوري المصري ذا مسالب كبيرة على كل من حاول تطبيقها.فكل تلك الثورات ذات طابع نخبوي إنتقائي خالية من كل المضامين الثورية المعلنة منذ البداية.ولست أحاول هنا توحيد الخطاب بين كل الإتجاهات والتجارب الثورية العالمية،ولكني هنا في محاولة للحديث عن البنية الإنسانية المتطلعة دائماً لحرية أسطورية،والمواجهة بإحباط كامل.
والثورة الإيرانية لا تختلف من هذا المنظور عن غيرها من الثورات،فالهدف الأول المعلن دائماً دفع مظالم العهد الملكي،إعادة توزيع الثورات،الحد من كثرة التدخلات الأجنبية في الإستفادة من الموارد الطبيعية والإقتصادية الإيرانية.اعتمدت الثورة في قيامها على كل الطبقات الشعبية بمختلف الطوائف الاجتماعية،على رأسها اتجاهين أحدهما الاتجاه الماركسي المتمثل في حزب " توده "،ثانيها الحوزات الدينية،بالإضافة إلى كل الوجهات الثقافية الممثلة لكافة التوجهات داخل المجتمع الإيراني وبعد تاريخ طويل من الصراع مع السلطة الملكية وصل أحياناً إلى حد الصدامات الدموية،عانى منها كل فئات الشعب الإيراني.اعتلى التيار الديني بالتدريج أحياناً وبالتبعيد أحياناً الحياة السياسية الإيرانية،وعمل على نفي كل الإتجاهات المعارضة له.وتجسد الخوميني كرمز كلي للثورة مع تفريغ كل الرموز الثورية الأخرى من مضمونها.ولدى عودة الخوميني من منفاه في باريس بعد طرد الشاه،حُملت سيارته وهو داخلها على الأعناق.وأخذت الثورة الإيرانية بعدها اتجاهين غاية في الأهمية،الأول:نقل الفكر الثوري وتصديره في رداءه الإسلامي والصدام إن أستدعى الأمر (حرب الخليج الأولى مثلاً)،والثاني:التصفيات الداخلية وبأشكال متعددة لكل الآراء المعارضة من ماركسية أو ليبرالية ليست على وفاق مع النظام في كل ما يعتقد.
واستفاد المد الثوري الإيراني من نفس المساحات المستغلة من قبل كل الاتجاهات السياسية في المنطقة،فكانت المعارضة الدينية في الجزاير،وحزب الله في الصدام اللبناني الإسرائيلي،وحماس في فلسطين، مع دعم لكل أشكال معارضة الأنظمة في المنطقة،فالشكل الثوري لابد أن يكون إسلامياً (سني أو شيعي لا يهم) المهم أن تضمن طوال الوقت الأرضية الشعبية،خاصة مع إخفاق الحكومات القائمة على ملئ الفراغ السياسي الذي خلفته النظم الثورية القديمة،فكل المحاولات للتغير كانت على مستوى شكل الممارسة فقط.
إلا أن المد الثوري الإيراني لا يتلازم بالضرورة مع المد الشيعي أو محاولة تشيع المنطقة،وذلك لعدة أسباب،أولها/أن إيران متشيعة منذ البداية لا من بداية الثورة فحسب فما الحاجة الآن لنشر التشيع.ثانياً/إن التشيع منتشر بالفعل في المنطقة منذ قرون،فمعظم دول الخليج بها أغلبية شيعية،كما أن العديد من مراجع التقليد في المذهب الشيعي في لبنان (جبل عامل مثلاً)،والنجف بالعراق.ثالثاً/إن أكثر الاتجاهات ميلاً للتشيع في العالم الإسلامي هي الجماعات الصوفية،وهي ذات صلة وثيقة بكل التيارات الشيعية داخل إيران وخارجها.بل إن هناك تاريخ للتشيع لا بأس به في مصر على مدار التاريخ.
وفي النهاية لا أُبرئ الثورة الإيرانية من استغلال الطابع الديني في نشر الفكر الثوري الحركي،ولكنه لا يخرج عن كونه مجرد إستغلال،فالثورة الإيرانية تبدوا للوهلة الأولى لحظة نقية من التاريخ مثالية كما بدت كل الثورات،ولكن كما غيرها أيضاً أصبح لديها رصيد طويل من القمع ووحدوية الرؤية لم تعد صالحه معه للتصدير،وإن كان هناك ثمّة استهلاك فلا يتعدى الاستهلاك اليومي على صفحات الجرائد والأبحاث.
(جريدة صوت البلد)
فالعدل والحرية والمساواة في الثورة الفرنسية يمتزجون بدماء النبلاء والمعارضين،والثورة البلشفية تكتسح العالم بمفاهيمها وأعلامها الحمراء والنخبوية وآلة القمع السياسي والعسكري لكل الإتجاهات المعارضة على مدار تاريخها،وصولاً للثورة الكمالية في تركيا التي صدّرت تطبيقها للفكر العالماني ملوحة بشعارات تبدوا بناءة للمجتمع المدني،فتحول المجتمع لفصام كامل من ديني الوجهه لاديني التوجه،حتى الثورة المصرية ونزعتها القومية وتأثيرها على العديد من البلدان العربية وغيرها حتى إيران ذاتها قبل العهد الثوري ومرحلة (مصدق) في إيران وتأميم البترول ثم فشلها،إلا أن الطابع الثوري المصري بكل ما اتسم به من فردية تبدوا كملامح الديكتاتورية،جعلت المد الثوري المصري ذا مسالب كبيرة على كل من حاول تطبيقها.فكل تلك الثورات ذات طابع نخبوي إنتقائي خالية من كل المضامين الثورية المعلنة منذ البداية.ولست أحاول هنا توحيد الخطاب بين كل الإتجاهات والتجارب الثورية العالمية،ولكني هنا في محاولة للحديث عن البنية الإنسانية المتطلعة دائماً لحرية أسطورية،والمواجهة بإحباط كامل.
والثورة الإيرانية لا تختلف من هذا المنظور عن غيرها من الثورات،فالهدف الأول المعلن دائماً دفع مظالم العهد الملكي،إعادة توزيع الثورات،الحد من كثرة التدخلات الأجنبية في الإستفادة من الموارد الطبيعية والإقتصادية الإيرانية.اعتمدت الثورة في قيامها على كل الطبقات الشعبية بمختلف الطوائف الاجتماعية،على رأسها اتجاهين أحدهما الاتجاه الماركسي المتمثل في حزب " توده "،ثانيها الحوزات الدينية،بالإضافة إلى كل الوجهات الثقافية الممثلة لكافة التوجهات داخل المجتمع الإيراني وبعد تاريخ طويل من الصراع مع السلطة الملكية وصل أحياناً إلى حد الصدامات الدموية،عانى منها كل فئات الشعب الإيراني.اعتلى التيار الديني بالتدريج أحياناً وبالتبعيد أحياناً الحياة السياسية الإيرانية،وعمل على نفي كل الإتجاهات المعارضة له.وتجسد الخوميني كرمز كلي للثورة مع تفريغ كل الرموز الثورية الأخرى من مضمونها.ولدى عودة الخوميني من منفاه في باريس بعد طرد الشاه،حُملت سيارته وهو داخلها على الأعناق.وأخذت الثورة الإيرانية بعدها اتجاهين غاية في الأهمية،الأول:نقل الفكر الثوري وتصديره في رداءه الإسلامي والصدام إن أستدعى الأمر (حرب الخليج الأولى مثلاً)،والثاني:التصفيات الداخلية وبأشكال متعددة لكل الآراء المعارضة من ماركسية أو ليبرالية ليست على وفاق مع النظام في كل ما يعتقد.
واستفاد المد الثوري الإيراني من نفس المساحات المستغلة من قبل كل الاتجاهات السياسية في المنطقة،فكانت المعارضة الدينية في الجزاير،وحزب الله في الصدام اللبناني الإسرائيلي،وحماس في فلسطين، مع دعم لكل أشكال معارضة الأنظمة في المنطقة،فالشكل الثوري لابد أن يكون إسلامياً (سني أو شيعي لا يهم) المهم أن تضمن طوال الوقت الأرضية الشعبية،خاصة مع إخفاق الحكومات القائمة على ملئ الفراغ السياسي الذي خلفته النظم الثورية القديمة،فكل المحاولات للتغير كانت على مستوى شكل الممارسة فقط.
إلا أن المد الثوري الإيراني لا يتلازم بالضرورة مع المد الشيعي أو محاولة تشيع المنطقة،وذلك لعدة أسباب،أولها/أن إيران متشيعة منذ البداية لا من بداية الثورة فحسب فما الحاجة الآن لنشر التشيع.ثانياً/إن التشيع منتشر بالفعل في المنطقة منذ قرون،فمعظم دول الخليج بها أغلبية شيعية،كما أن العديد من مراجع التقليد في المذهب الشيعي في لبنان (جبل عامل مثلاً)،والنجف بالعراق.ثالثاً/إن أكثر الاتجاهات ميلاً للتشيع في العالم الإسلامي هي الجماعات الصوفية،وهي ذات صلة وثيقة بكل التيارات الشيعية داخل إيران وخارجها.بل إن هناك تاريخ للتشيع لا بأس به في مصر على مدار التاريخ.
وفي النهاية لا أُبرئ الثورة الإيرانية من استغلال الطابع الديني في نشر الفكر الثوري الحركي،ولكنه لا يخرج عن كونه مجرد إستغلال،فالثورة الإيرانية تبدوا للوهلة الأولى لحظة نقية من التاريخ مثالية كما بدت كل الثورات،ولكن كما غيرها أيضاً أصبح لديها رصيد طويل من القمع ووحدوية الرؤية لم تعد صالحه معه للتصدير،وإن كان هناك ثمّة استهلاك فلا يتعدى الاستهلاك اليومي على صفحات الجرائد والأبحاث.
(جريدة صوت البلد)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق